کد مطلب:309799 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:265

القسمت 36


ما أصغر فدكاً فوق الأرض... وفی الجغرافیا. و ما أوسعها فی خارطة التاریخ.

هبّ السامریّ لیجثو أمام «العجل» وفتحت الأوثان العربیة عیوناً حجریة تحدّق ببلاهة... وبرقت عینا «الاسخریوطی» بالغدر و هو یدلّ علی ابن مریم... و همّ بنواسرائیل بهارون، وفرّت الفراشات إلی مخابئها و قد عوت ریح الزمهریر كذئاب مجنونة.

نهضت فاطمة بوجه العاصفة تقول لا:

- لا تقتلوا یوسف.. و لا تلقوه فی غیابت الجبّ.

- لا تغدروا بابن العذراء.. لا تعبدوا العجل من دون الرحمن.. لا تقتلوا هارون.

- دعوا الفراشات تسبح فی غمرة النور.. لا تطفئوا الشموع.. لا تتقلوا الأرض بالآثام.. دعوا هابیل یرعی ماشیته بسلام.


وقفت فاطمة تنظر إلی الأفق البعید المدلهمّ بالخطوب و الحوادث وراحت تسرج الشموع فی مهب العواصف علّها تضی ء الصحراء والتاریخ.

معركة وشیكة ستندلع.. تدمّر كلّ شی ء.. معركة عجیبة اسلحتها الصبر.. الصمت الرفض... كان علی علیّ أن یرمی «ذالفقار» جانباً.. أن یصرخ بالصمت.. الصمت المدوّی و كان علی فاطمة أن تتكلّم بعد أن طوت الماضی متبتلة فی المحراب.

نهضت فاطمة. غادرت محراب الصمت لتقول كلمتها فی الذین یسرقون «فدك» فی غمرة اللیل حتی لا یسرقوا التاریخ و المستقبل فی وضح النهار..

جاءت فاطمة تطالب بالمیراث و كانت جذوع «فدك» سلاحها الوحید:

- اعطنی میراثی من أبی رسول اللَّه.

قال أبوبكر:

- سمعت أباك یقول: نحن معاشر الأنبیاء لانورّث.

- كیف و قد ورث سلیمان داود.. وقال زكریا: یرثنی ویرث من آل یعقوب؟!!

- أنا سمعت رسول اللَّه یقول نحنُ الأنبیاء لا نورّث وهاهی


عائشة وحفصة تشهدان علی ذلك.

- سبحان اللَّه ما كان أبی عن كتاب اللَّه صادفاً.. و لا لأحكامه مخالفاً..

اشتعلت ثورة فی قلب ابن فاطمة و كان صبیّاً جذب رداء رجل ینازع امّه المیراث.

هتف السبط:

- انزل عن منبر أبی و اذهب إلی منبر أبیك.

سأل الرجل بدهاء:

- من علّمك أن تقول هذا؟

لاذ الصبی بالصمت.

فعاد الرجل یكرّر مقالة ما أنزل اللَّه بها من سلطان.

قالت فاطمة و هی تضمّ ریحانة الرسول و تحدّق فی الذین اغتصبوا میراث الأنبیاء:

- كلّا بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جمیل واللَّه المستعان علی ما تصفون.

غادرت فاطمة المكان.. و تناثرت أسئلة.. علامات استفهام، فتمتم الخلیفة بأسیً أمام صاحبه:


- أما كان الأحری أن نهبها فدكاً... أنا أخشی ابنة محمد.

أجاب أبوحفص مشجّعاً:

- لا تخف یا صاحبی... غبرة و تنجلی و ما هی إلّا جولة و ینتهی كلّ شی ء... و كأن شیئاً لم یكن... و ربت علی كتفه و قد عرف كیف یتغلفل إلی قلبه:

- أقم الصلاة... و آت الزكاة... ان الحسنات یذهبن السیئات.. و ما یفعل ذنب واحد فی حسنات كثیرة.

أضاءت الابتسامة وجهه، فقال:

- كربة فرجّتها یا عمر..

هتف الخلیفة و قد شحذ العزم كلمات تدعو بالویل والثبور...

- ألا لو شئت أن أقول لقلت، و لو تكلمت لبحت و انی ساكت ما تركت... یستعینون بالصبیة و یستنهضون النساء.. و انی لستُ كاشفاً قناعاً و لا باسطاً ذراعاً و لا لساناً، إلّا من استحق ذلك.

استنكرت اُم سلمة و كانت امرأة علی خیر:

- أمثل هذا یُقال لفاطمة!! وهی الحوراء و عدیلة مریم.. ربیت فی أحضان الأنبیاء و تداولتها أیدی الملائكة.. أتزعم ان رسول اللَّه حرّم علیها میراثه؟!

عادت فاطمة إلی منزلها.. و قد جثم الحزن علی بیوت المدینة


كطائر مهیض الجناح.

أوت فاطمة إلی المحراب تستمد من السماء الروح.. الحیاة.. النور؛ ترید أن تتخفف من عناصر الأرض.. الأرض المثقلة بالدماء الآدمیة... ترید أن تنتمی إلی عالم آخر لانكد فیه و لا عناء... تنشد بیتاً من قصب لا تعب فیه و لا نصب.. ما تزال تبحث عن اُمّها.. أوت فاطمة تلك اللیلة إلی المحراب، وقالت:

- ربِّ إبنِ لی عندك بیتاً فی الجنّة و نجّنی.

هوّمت عیناها.. فانبثق شلّال من نور النبوّات.

هتفت بشوق:

- یا أبتاه، یا رسول اللَّه انقطعت عنّا السماء.

خفقت أجنحة الملائكة.. رفرفرت كفراشات من نور سماویّ.. ولجت فاطمة الملكوت راحت تخطر فی عوالم النور.. الملائكة صفوف والحدائق غنّاء... و الأنهار تجری متدفقة تدفّق الحیاة.. وحوریات یخطرن بین الأشجار الخالدة.

قالت احداهن لفاطمة:

- مرحباً بحوریة الأرض...

فاطمة تخطر فی عالم شفّاف.. عالم ملوّن. أشارت فاطمة إلی نهر یطّرد.. تتدافع أمواجه البیضاء.. تدور حول قصر تحفّه الأشجار


ویغمره النور من كلّ مكان. قالت حوریة:

- هذا الفردوس.. وهنا یسكن سیّد ولد آدم محمد.

- أین أبی؟

انبثق شلّال من نور محمّد... كان یرتدی ثیاباً من سندس بلون الربیع..

ركضت فاطمة.. ضاعت فی صدره الرحب.. شعرت بأنها تعود إلی أحضان أمّها.. إلی عالم تنتمی الیه.

- انظری إلی ما أعدّ اللَّه لك.. لقد انتهت آلامك و آن لك أن تستریحی.. انظری إلی زهدك كیف أصبح جنّة عرضها كعرض السماوات و إلی فراش اللیف فكیف صار سریراً من حریر، و إلی جوعك و عریك كیف أضحی فاكهة و قطوفاً دانیة واستبرق وحریرا.. وانظری إلی دموعك اضحت أنهاراً من لبن.. ومن عسل تجری، و إلی حجرتك أمست قصراً... و إلی ظلمات الأرض صارت شلالات من نور یتدفّق..

انتبهت فاطمة.. عادت إلی الأرض لتودّعها.. لتقول كلمتها قبل الرحیل الأبدی... عادت لتبنی بیت الأحزان... تبكی الأرض المثقلة بالهم... بالدموع و بالألم.